"
"
قالت لي وهي تعتدل في جلستها: أكره النفاق، أبغضه،
الوضوح يا سيدي هو أهم شيء في حياتي،
لكنه في الوقت ذاته أكثر ما يؤلمني ويسبب لي المشاكل!،
نحن للأسف نحيا في عالم تحكمه قوانين المصلحة،
والمداهنة والمداراة، لذا أصطدم دائماً بمن يرى في رأيي صراحة يجب إخفاؤها..
تصور.. يريدون مني أن أنافق مثلهم وأداري وأكذب..
وهذا لن يحدث، فأنا ببساطة من ذلك الصنف الذي يقول للأعور يا أعور.. وفي وجهه!!.
أحد أكثر الأشياء التي تقف حائلاً أمام تواصل المرء مع غيره من البشر هو عدم الوعي
بأن الحياة ليست حادة، بها من الألوان ما يجعل الأبيض والأسود
مجرد لونين فقط في المجموعة،
وأن النظر إلى الأمور من خلال هذين اللونين فقط
هو إشارة إلى عدم نُضْج الشخصية، ومراهقة فكرية ونفسية!.
كثير منا يرى أن الأمور حلال وحرام، صح وخطأ،
أبيض وأسود، ويصرخ عالياً بأن "الحلال بين والحرام بين"،
مقتطعاً جزءاً من الحديث الشريف.
ويبدأ من فوره في معاملة الناس وتصنيفهم بناء على هذه الرؤية،
وبلا شك سيصطدم بأن ما يراه "أبيض" يراه الآخر "رمادياً"!،
وما يؤمن بأنه "حرام" سيجد أن هناك من يراه "مكروهاً"،
وبأن ما يهرب منه على أنه "خطأ" يتعاطى معه البعض على أنه "أخف الضررين"!.
لقد خلقنا ربنا -جلّ وعلا- بأذهان مختلفة، ومدارك غير متطابقة،
وطرق للتفكير والتحليل متباينة، بل حتى بأذواق وأهواء متنوعة،
وكان هذا من حكمته -سبحانه- كي يوجهنا إلى التدافع والتنافس والاحتكاك،
والذي سيولّد بطبيعة الحال حركة وإعماراً وتطويراً على سطح الأرض.
وبعضنا للأسف أبعد ما يكون عن فهم هذا الأمر، فتراه يتعامل بحدّة شديدة
مع أي شيء يختلف مع أفكاره، وما يؤمن به، والمؤسف أن تصل الحدة إلى معاداة
ما لا يتذوقه أو يستسيغه مما يحتمل آراء وأذواقاً مختلفة.
لا ينتقي كلماته أو يختر أجملها وألطفها..
وحُجّته أنه إنسان صريح وواضح!.
لا يجامل أحداً؛
لأن المجاملات لون من ألوان النفاق الاجتماعي كما يقول!..
يقول للأعور يا أعور في وجهه؛
لأن الشجاعة والصدق والصراحة يستدعون ذلك!.
فهل هذا أمر حقيقي؟! والإجابة هي.. لا.
المرء الذكي اجتماعياً يجب أن يتعلم فن التعامل مع اختلافات أذواق البشر وميولهم
وأفكارهم، يجب أن يرتقي درجات عالية في تذوّق الكلمات
قبل أن يتفوه بها ليختار منها الأفضل والأجمل والأحسن وقعاً على محدّثه.
ومن المشاهد البديعة في سيرة النبي أن السيدة عائشة
زوّجت إحدى قريباتها إلى رجل من الأنصار،
فسألها النبي صلى الله عليه وسلم: "أهديتم الفتاة ؟ قالوا: نعم. قال: أرسلتم معها من يغني؟
قالت: لا. فقال رسول الله: إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو
بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم".
أنظر هنا متأملاً لقول النبي: "الأنصار قوم فيهم غزل"،
وفي رواية: "يعجبهم اللهو"، لتدرك أن الواحد منا يجب أن يراعي ذوق الآخر،
وميوله، وما يحب وما لا يحب، ولا يدور في فلك ذاته، ويفرض على الآخر أسلوبه وطريقته هو.
إننا يا أصدقائي بحاجة إلى استبدال كلمات مثل
: "خطأ"، "لا بد"، "لا يصح" بكلمات أخرى
من نوع: "في رأيي"، "في تصوري"، "حسب علمي"، "لا أستسيغ".
نحن بحاجة إلى أن نتقبل الناس كما هم، ونتفاعل معهم
بأمزجتهم وتفكيرهم، وحدود عقولهم.. بل وبعيوبهم!.
وليس في الأمر نفاقاً ولا مداهنة، بل فطنة وحُسن أدب..
ذكر البخاري في صحيحه "أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يجلس في بيته ذات يوم قبل أن يستأذن عليه رجل -سيء السمعة-
فقال النبي للسيدة عائشة: "بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة.
فلما جلس تطلّق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه
وألان له في الكلام، فلما انطلق الرجل قالت عائشة: يا رسول الله..
حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلّقت في وجهه وانبسطت إليه؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة..
متى عهدتني فحّاشاً؟ إن شر الناس عند الله
منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتّقاء شره".
في هذا المشهد العبقري يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم
معنى دقيقاً جداً؛ وهو أن الصراحة والوضوح لا تعني الفحش وسوء الأدب،
وأننا قد نلقى مَن تخاصمهم قلوبنا لكننا -بما في صدورنا
من أدب وسماحة- نبتسم في وجوههم، ونلبي حاجاتهم،
ونحتسب عند الله أجر ما عانينا من تحمّل سخافاتهم وقلة ذوقهم!.
والمتتبع لسيرة النبي سيجد أنه عليه الصلاة والسلام لم يغلظ على أحد،
أو يصرخ في وجه أي شخص، سواء في فترات الاستضعاف أو التمكين.
سمها "ذوقيات" أو "مجاملات" أو "إتيكيت".. لا يهم..
المطلوب أن تكون رحب الصدر، ولا تتعصب لوجهة نظرك أو آرائك،
وأن تبتسم وتتذوق الكلمة قبل أن تتفوه بها..
وإلا فقد تضطر إلى ابتلاع الكثير من الكلمات السخيفة
التي قد يُخرجها لسانك!.
~ كريم الشاذلي
"
قالت لي وهي تعتدل في جلستها: أكره النفاق، أبغضه،
الوضوح يا سيدي هو أهم شيء في حياتي،
لكنه في الوقت ذاته أكثر ما يؤلمني ويسبب لي المشاكل!،
نحن للأسف نحيا في عالم تحكمه قوانين المصلحة،
والمداهنة والمداراة، لذا أصطدم دائماً بمن يرى في رأيي صراحة يجب إخفاؤها..
تصور.. يريدون مني أن أنافق مثلهم وأداري وأكذب..
وهذا لن يحدث، فأنا ببساطة من ذلك الصنف الذي يقول للأعور يا أعور.. وفي وجهه!!.
أحد أكثر الأشياء التي تقف حائلاً أمام تواصل المرء مع غيره من البشر هو عدم الوعي
بأن الحياة ليست حادة، بها من الألوان ما يجعل الأبيض والأسود
مجرد لونين فقط في المجموعة،
وأن النظر إلى الأمور من خلال هذين اللونين فقط
هو إشارة إلى عدم نُضْج الشخصية، ومراهقة فكرية ونفسية!.
كثير منا يرى أن الأمور حلال وحرام، صح وخطأ،
أبيض وأسود، ويصرخ عالياً بأن "الحلال بين والحرام بين"،
مقتطعاً جزءاً من الحديث الشريف.
ويبدأ من فوره في معاملة الناس وتصنيفهم بناء على هذه الرؤية،
وبلا شك سيصطدم بأن ما يراه "أبيض" يراه الآخر "رمادياً"!،
وما يؤمن بأنه "حرام" سيجد أن هناك من يراه "مكروهاً"،
وبأن ما يهرب منه على أنه "خطأ" يتعاطى معه البعض على أنه "أخف الضررين"!.
لقد خلقنا ربنا -جلّ وعلا- بأذهان مختلفة، ومدارك غير متطابقة،
وطرق للتفكير والتحليل متباينة، بل حتى بأذواق وأهواء متنوعة،
وكان هذا من حكمته -سبحانه- كي يوجهنا إلى التدافع والتنافس والاحتكاك،
والذي سيولّد بطبيعة الحال حركة وإعماراً وتطويراً على سطح الأرض.
وبعضنا للأسف أبعد ما يكون عن فهم هذا الأمر، فتراه يتعامل بحدّة شديدة
مع أي شيء يختلف مع أفكاره، وما يؤمن به، والمؤسف أن تصل الحدة إلى معاداة
ما لا يتذوقه أو يستسيغه مما يحتمل آراء وأذواقاً مختلفة.
لا ينتقي كلماته أو يختر أجملها وألطفها..
وحُجّته أنه إنسان صريح وواضح!.
لا يجامل أحداً؛
لأن المجاملات لون من ألوان النفاق الاجتماعي كما يقول!..
يقول للأعور يا أعور في وجهه؛
لأن الشجاعة والصدق والصراحة يستدعون ذلك!.
فهل هذا أمر حقيقي؟! والإجابة هي.. لا.
المرء الذكي اجتماعياً يجب أن يتعلم فن التعامل مع اختلافات أذواق البشر وميولهم
وأفكارهم، يجب أن يرتقي درجات عالية في تذوّق الكلمات
قبل أن يتفوه بها ليختار منها الأفضل والأجمل والأحسن وقعاً على محدّثه.
ومن المشاهد البديعة في سيرة النبي أن السيدة عائشة
زوّجت إحدى قريباتها إلى رجل من الأنصار،
فسألها النبي صلى الله عليه وسلم: "أهديتم الفتاة ؟ قالوا: نعم. قال: أرسلتم معها من يغني؟
قالت: لا. فقال رسول الله: إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو
بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم".
أنظر هنا متأملاً لقول النبي: "الأنصار قوم فيهم غزل"،
وفي رواية: "يعجبهم اللهو"، لتدرك أن الواحد منا يجب أن يراعي ذوق الآخر،
وميوله، وما يحب وما لا يحب، ولا يدور في فلك ذاته، ويفرض على الآخر أسلوبه وطريقته هو.
إننا يا أصدقائي بحاجة إلى استبدال كلمات مثل
: "خطأ"، "لا بد"، "لا يصح" بكلمات أخرى
من نوع: "في رأيي"، "في تصوري"، "حسب علمي"، "لا أستسيغ".
نحن بحاجة إلى أن نتقبل الناس كما هم، ونتفاعل معهم
بأمزجتهم وتفكيرهم، وحدود عقولهم.. بل وبعيوبهم!.
وليس في الأمر نفاقاً ولا مداهنة، بل فطنة وحُسن أدب..
ذكر البخاري في صحيحه "أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يجلس في بيته ذات يوم قبل أن يستأذن عليه رجل -سيء السمعة-
فقال النبي للسيدة عائشة: "بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة.
فلما جلس تطلّق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه
وألان له في الكلام، فلما انطلق الرجل قالت عائشة: يا رسول الله..
حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلّقت في وجهه وانبسطت إليه؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة..
متى عهدتني فحّاشاً؟ إن شر الناس عند الله
منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتّقاء شره".
في هذا المشهد العبقري يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم
معنى دقيقاً جداً؛ وهو أن الصراحة والوضوح لا تعني الفحش وسوء الأدب،
وأننا قد نلقى مَن تخاصمهم قلوبنا لكننا -بما في صدورنا
من أدب وسماحة- نبتسم في وجوههم، ونلبي حاجاتهم،
ونحتسب عند الله أجر ما عانينا من تحمّل سخافاتهم وقلة ذوقهم!.
والمتتبع لسيرة النبي سيجد أنه عليه الصلاة والسلام لم يغلظ على أحد،
أو يصرخ في وجه أي شخص، سواء في فترات الاستضعاف أو التمكين.
سمها "ذوقيات" أو "مجاملات" أو "إتيكيت".. لا يهم..
المطلوب أن تكون رحب الصدر، ولا تتعصب لوجهة نظرك أو آرائك،
وأن تبتسم وتتذوق الكلمة قبل أن تتفوه بها..
وإلا فقد تضطر إلى ابتلاع الكثير من الكلمات السخيفة
التي قد يُخرجها لسانك!.
~ كريم الشاذلي
تعليق